• 2021-07-17

إدارة

لا لفصل الدين عن الإدارة

سمعنا من ينادي بعدم فصل الدين عن السياسة ولم نسمع من يطالب بعدم فصل الدين عن الإدارة، فهل يوجد ارتباط بين الإدارة والدين؟ وهل يمكن تطبيق الإدارة في ظل مبادئ الدين وقواعد الشرع؟ هذا ما جعلني أراجع المواقف الإدارية لكثير من الإداريين في الشركات والمؤسسات والتجمعات فوجدت العجب العُجاب:-
قابلت شخص فأسمعني الأشعار والمدائح حول تدين والتزام مديره ثم انهي كلامه بقوله (إلا ان تعامله مع الموظفين لا يتحمله بشر). ورأيت المدير يجلس وفي يده المسبحة وعلامة الصلاة على جبهته والمصحف علي مكتبه، إلا أنه لا يعلم شيء عن الإدارة الحديثة ولم يتدرب على أي مهارة من مهارات الإدارة، فيُسبح ويصلي ثم يُخرب ويُعطل بعدم علمه. وسمعت عن المدير الذي يَؤم الموظفين في الصلاة ويخطب فيهم بتقوى الله، ثم لا يعرف عن الإدارة إلا التحقيقات والجزاءات وقرارات الفصل.
حينما قلت لأحدهم اتقي الله، فتعجب وبادرني بالسؤال "هل أنا أسرق أموال الشركة أم اختلس؟" وهو لا يعرف أنه يسرق أوقات العاملين عندما يفشل في إدارة الاجتماع بهم، ويُضيع أوقاتهم ويختلس أعمارهم لعدم استطاعته تنمية قدراتهم ورفع كفاءتهم.
يَفتخر أحدهم بأنه أدار مؤسسة منذ زمن بعيد دون أن يرتكب أي خطأ، وهو لا يعرف أنه ارتكب خطايا عدم التحسين والتطوير. ويذكرني أحدهم بمقولة سيدنا علي بن أبي طالب "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً.." وهو لا يعرف أي شيء عن التخطيط.
رأيت أحد المديرين يفتي في كل شيء ويَدعي المعرفة في كل التخصصات الفنية وغير الفنية، وحينما ينتهي يمسك مصحفه ويرتل قوله تعالي" فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"!، وآخر يرتل سورة آل عمران حتى ينتهي من قوله تعالي "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" ثم يصدر القرارات الفوقية دون نقاش او سماع لرأي فريق العمل عنده.
كل هذه المشاهد والمواقف التي تؤكد علي وجود فجوة شاسعة بين الدين والإدارة؛ جعلتني أتسائل كيف تحدث هذه الازدواجية الغريبة؟ ألم يسمعوا قوله تعالي "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"؟، وبالتالي جاء الدين لينظم الحياة كاملة بما فيها السياسة والاقتصاد والإدارة؟ ألم يكون الرسول ﷺ قدوة متكاملة في الشئون السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية؟ ألم يجمع سيدنا عمر بين التقوي وبين الكفاءة الإدارية، فكان أول من انشأ نظام الدواوين والإدارة المحلية وأول من أنشأ نظام للمتابعة الإدارية، وهكذا باقي الصحابة ومن تبعهم من السلف الصالح فقد برعوا في عمليات الإدارة المغلفة بالتقوي والالتزام بالدين فكسبوا الدنيا والاخرة، وهذا ما يُميزنا عن الغرب وما يرفعنا لمكانتنا الطبيعية في مقدمة الأمم؟
ومن هنا أخذت ابحث عن أسباب هذا الفصل بين الدين والإدارة، فوجدت الكثير من الأسباب التي أدت إلى هذا الفصل المقيت ومنها:-
- الفهم الضيق لصحيح الدين فالكثير يحبس الدين على العبادات دون باقي جوانب الحياة، وحتى كثير من المصلحين ورواد المشروعات الخيرية والإسلامية ومن ينادون بالشمولية يميلوا بها إلى شمول الدين للسياسة وأدوات الحكم والاقتصاد، أما الإدارة فمازالوا يفصلونها كما يَفصلُ البعض الدين عن السياسة.
- الجهل بعلم الإدارة واعتبارها مجموعة من التصرفات العفوية الناتجة من خبرات العمل لتصريف الاعمال دون التعرف علي مكونات الإدارة ومهارتها الدقيقة وأنها علم لابد من تعلمه أو الاستقالة والانسحاب.
- قلة طرح مثل هذه المواضيع من علماء الإدارة أنفسهم وعدم تحذيرهم من خطورة هذا الفصل.
- الفساد السياسي الذي يؤثر بالطبع على الحياة بكامل جوانبها ومنها الجانب الإداري.
- عدم عرض علماء الدين لأهمية ربط الدين بأعمال الإدارة، وحينما يتطوع أحدهم للتعرض لمثل هذه الموضوعات يتحدث عن ذنوب السرقات والتربح في الشركات، أما التقصير في تحسين طريقة الإدارة وكفاءة ودقة التخطيط والتنظيم وغيرها من مكونات القوة في الإدارة فلم نسمع من يتحدث عنها، وكأن التقصير فيها مباح حتي لو كان سببه خراب الشركات وخسارة المؤسسات وإخفاق التجمعات.
- الفهم الخاطئ لمكونات الطاعات، فحينما تنصح أحد المديرين بزيادة الاجتهاد في الطاعة والعبادة فينصرف ذهنه إلى كثير من الصلوات والصدقات أو التمسك اكثر بالأمانة والأخلاق، لكن لن يذهب ذهنه إلى كفاءة إدارته للاجتماعات وكيفية اتخاذ القرارات وحُسن التخطيط ودقة التنظيم.
لقد عانت الإدارة من فصل الدين عنها مثلها مثل باقي مجالات الحياة السياسة والاقتصادية وغيرها، فالدين إكسير الحياة حينما يُنزع من شيء فَقدَ ماهيته، فلقد فقدت عمليات الإدارة حيويتها في قلوب الإداريين وضَعف دافعيتها، واقتصرت على النجاح المادي وزيادة الإيرادات وتحقيق الأرباح، حيث يجتهد الإداريين في كل شيء عدا تحسين مهارتهم الإدارية طالما لم يحدث لهم مشكلة في عملهم، أو لا ينتظروا ترقية يجب الاستعداد لها.
وسنظل في هذه الظلمات كلما فصلنا الدين عن مجالات الحياة، فقد علا الاستبداد وقُهرت الشعوب بفصل الدين عن السياسة وتجمدت إدارات المؤسسات وتوقف تحسين إدارة الشركات وضَعفت إدارة التجمعات بفصل الدين عن الإدارة وأصبحنا نتربع دول العالم الثالث.
فهل يفيق الإداريين بالمؤسسات والشركات ورواد العمل الخيري والإسلامي على خطورة هذا الفصل وهذه الازدواجية؟ لتعود الإدارة في أحضان الدين مرة اخرى وتتشبع بمبادئه وتتغذي من حيويته؟ فياليتني أهمس لكل مدير وإداري أن تقرب إلى الله بتعلم فنون الإدارة الحديثة، واكتساب مهارات الإدارة وارتقِ إلى الله بتحسين طريقة إدارتك وتطوير عملك الإداري وفق أحدث النظم، واجتهد مع الله باجتهادك في التخطيط والتنظيم لعملك، بهذا ترتقي في مؤسستك وترتقي مع الله، وتكسب في الدنيا وتكسب في الآخرة، وتزيد من راتبك وتزيد من حسناتك، "يا ليتهم يعلمون"..

آخر أخبار د.علي عبدالغفار

  • حينما يسبق الأفراد القيادة

    2022-12-21

    القيادة بمثابة الرأس للجسد؛ فهي القاطرة التي تقود المؤسسة أو الكيان إلى النجاح والتقدم، والتاريخ مليء بقيادات غيَّرت وجه التاريخ، وأولها بالطبع القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت القيادة بهذه الأهمية وهذا التأثير فلابد لها من مجموعة خصائص وم...

  • إدارة الأسرة قبل إدارة الشركة

    2022-10-16

    ذهبت الزوجة إلى زوجها مدير الشركة، وعند دخولها مكتبه توقفت باندهاش أمام مشهد عجيب لم تره منذ زمن بعيد، فقد رأت زوجها مدير الشركة جالساً مع مجموعة من العاملين يسمع لهم ويناقش مشاكلهم ويمازحهم. وفي حالة أخرى ذهب الولد إلى أبيه مدير الشركة، وفجأة انزوى...

  • إدارة الذات قبل إدارة المؤسسات

    2022-09-16

    لو سألت مدير شركة أو مؤسسة عن معلومات وبيانات شركته لَأفاض عليك وزيادة بتقارير شفوية وأخرى مكتوبة، لكنه يقف ولا يحرك ساكناً حينما تسأله عن معلومات حول شخصيته، وعن معرفة ذاته وعن ميوله ونقاط قوته وضعفه، ولسان حاله يقول "من أين أُحضِر لك هذه المعلومات ...

  • نمط الإدارة ونجاح المؤسسات

    2022-07-19

    يكفي أن تبلغني عن كون هذه المؤسسة ناجحة أو خاسرة حتى أرد عليك وأنا في مكتبي عن طريقة ونمط الإدارة والممارسات الإدارية التي تتم داخل تلك المؤسسة، وهذا ليس سحراً ولا ادعاء الغيب لكنه علم؛ حيث إن كل شيء له دلالاته ومؤشراته التي تُنبىء بالنتيجة، فالنجاح ...

  • شيخوخة المؤسسات والتنظيمات

    2022-06-19

    لطالما سمعنا عن وصول الإنسان إلى مرحلة الشيخوخة باعتباره كائناً حياً، ومن سنن الله في خلقة أن يمر الإنسان بمراحل عمرية حتى يصل إلى مرحلة الشيخوخة ثم إلى نهاية عمره. أما عندما نسمع من يقول إن المؤسسات والتنظيمات لها مراحل عمرية تصل بها إلى مرحلة الشي...

  • الروتين المظلوم

    2022-05-18

    دائماً ما يردد البعض القول.. "الروتين ممل، اللي نصبح فيه نِبَات فيه، الروتين يقتلني، أنا أصبحت أكره الروتين"، هذه كلمات نسمعها ذماً وسبَّاً في (الروتين)، ومعنى الروتين: هو التَّعَوُّد على عمل ما أو إجراء مكرر، وهي كلمة أصلها فرنسي وتعني تكرار عمل أو ...